فصل: الفصل الرابع في أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع في أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة:

والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون ومضاعفة القدر البشرية وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم فيبتدئ الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلا للعيان يظنه من يراه من الآخرين أنه بناء دولة واحدة وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب وأن الذي بناه سبأ بن يشخب وساق إليه سبعين واديا وعاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها ويشهد لذلك أن المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسيسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها ويشهد لذلك أيضا أنا نجد آثارا كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها مع أن الهدم أيسر من البناء بكثير لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم والبناء على خلاف الأصل.
فإذا وجدنا بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة وأنها ليست أثر دولة واحدة وهذا مثل ما وقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في محبسه يستشيره في ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تفعل واتركه ماثلا يستدل به على عظم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتهمه في النصيحة وقال أخذته النعرة للعجم والله لأصر عنه وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتخذ له الفؤس وحماه بالنار وصب عليه الخل حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانيا في التجافي عن الهدم فقال لا تفعل واستمر على ذلك لئلا يقال عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فرفعها الرشيد وأقصر عن هدمه وكذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط والظاهر وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم وهو إلى اليوم فيما يقال منفذ ظاهر ويزعم الزاعمون أنه وجد ركازا بين تلك الحيطان والله أعلم وكذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم أو تستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيام العديدة ولا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل المشهورة شهدت منها في أيام صباي كثيرا {والله خلقكم وما تعملون}.

.الفصل الخامس فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن المراعاة:

اعلم أن المدن قرار يتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار ولما كان ذلك القرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعا سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في تمنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض فإن الهواء إذا كان راكدا خبيثا أو مجاورا للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة وهذا مشاهد والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بأفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه ولقد يقال أن ذلك حادث فيها ولم تكن كذلك من قبل ونقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه أناء من نحاس مختوم بالرصاص فلما فض ختامه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع وكان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه وأراد بذلك أن الإناء كان مشتملا على بعض أعمال الطلمسات لوبائه وأنه ذهب سره بذهابه فرجع إليها العغن والوباء وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومباحثهم الركيكة والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرفه فنقله كما سمعه والذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها فإذا تخللتها الريح وتفشت وذهبت بها يمينا وشمالا خف شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات والبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد ويكون ذلك معينا له على الحركة والتموج وإذا خف الساكن لم يجد الهواء معينا على حركته وتموجه وبقي ساكنا راكدا وعظم عفنه وكثر ضرره وبلد قابس هذه كانت عندما كانت أفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجا فكان ذلك معينا على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن والمرض فهذا وجهه لا غير وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء وكانت أولا قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة فلما كثر سكانها انتقل حالها عن ذلك وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد وكثير من ذلك في العالم فتفهمه تجد ما قلته لك وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة فإن وجود الماء قريبا من البلد يسهل على الساكني حاجة الماء وهي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دوجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب ولا بد لها من المرعى فإذا كان قريبا طيبا كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقة في بعده ومما راعى أيضا المزارع فإن الزروع هي الأقوات فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله ومن ذلك الشجر للحطب والبناء فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقوب النيران للاصطلاء والطبخ والخشب أيضا ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم وقد يراعى أيضا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة الساكن وقد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وأفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ولهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.
ومما يراعى في البلاد إلى الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد تكون صريخا للمدينة متى طرقها طارق من العدو والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات ولا موضعها متوعر من الجبل كانت في غرة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها لما يأمن من وجود الصريخ لها وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالا وخرجوا عن حكم المقاتلة وهذه كالإسكندرية من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا.
ومتى كانت القبائل والعصائب موطنين بقربها بحيث يبلغهم الصريخ والنعير وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقعونه من إجابة صريخها كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الإسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وأفريقية وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها ولذلك والله أعلم كان طروق العدو للاسكندرية وطرابلس في الملة مرات متعددة والله تعالى أعلم.